أسباب قيام الحرب العالمية الأولى والثانية
المقدمة
لطالما كانت الحروب العالمية معالم فارقة في تاريخ البشرية، إذ أسفرت عن تغييرات جذرية في السياسات الدولية، الاقتصاديات العالمية، والتركيبات الاجتماعية للشعوب. من بين أكثر الحروب تأثيرًا في التاريخ، تبرز الحرب العالمية الأولى (1914-1918) والحرب العالمية الثانية (1939-1945) كنقطتين مفصليتين شكلتا العالم المعاصر. يركز هذا المقال على الأسباب العميقة والمعقدة التي أدت إلى نشوب هاتين الحربين، مستعرضًا الظروف السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، والعسكرية التي كانت وراءهما.
أولاً: أسباب قيام الحرب العالمية الأولى
1. التنافس الإمبريالي
شهدت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين توسعًا هائلًا في الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية، حيث سعت الدول الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى فرض سيطرتها على مستعمرات جديدة في إفريقيا وآسيا. هذا التوسع الإمبريالي تسبب في خلق منافسات مريرة بين القوى الأوروبية، حيث كانت الدول الكبرى تسعى للحصول على أكبر قدر ممكن من الأراضي والثروات. التنافس بين هذه القوى على المستعمرات أدى إلى احتدام النزاعات السياسية والعسكرية، وهو ما كان يشكل أرضية خصبة للصراعات المستقبلية.
2. التحالفات العسكرية
أدت التحالفات العسكرية بين الدول الأوروبية إلى تعقيد الأوضاع السياسية بشكل أكبر، حيث نشأت مجموعات متعارضة من القوى. في عام 1882، أُنشئ تحالف دول المركز بين الإمبراطورية الألمانية، الإمبراطورية النمساوية المجرية، وإيطاليا. في الجهة المقابلة، تكون تحالف دول الحلفاء الذي ضم بريطانيا العظمى، فرنسا، وروسيا. هذا النظام من التحالفات العسكرية جعل أي نزاع محلي يمكن أن يتحول بسرعة إلى صراع دولي شامل.
3. القومية والعرقية
ظهرت القومية كأحد العوامل المؤججة للصراعات في العديد من دول أوروبا، خصوصًا في منطقة البلقان. كانت هذه المنطقة تشهد احتكاكات بين الإمبراطوريات العثمانية والنمساوية-المجرية من جهة، وبين الشعوب السلافية التي كانت تسعى للحصول على الاستقلال. القومية العرقية والحركات الانفصالية، خاصةً في صربيا، ساهمت في خلق توترات متزايدة بين القوى الكبرى.
4. اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند
في 28 يونيو 1914، اغتيل الأرشيدوق فرانز فرديناند، وريث عرش الإمبراطورية النمساوية-المجرية، في سراييفو على يد قوميين صربيين. هذا الحدث كان بمثابة الشرارة التي أشعلت الحرب. رد فعل الإمبراطورية النمساوية-المجرية على الاغتيال كان سريعًا، حيث قدمت إنذارًا لصربيا، ما أدى إلى تصعيد الموقف بسرعة. وقد أثرت التحالفات العسكرية على تسارع وتيرة الحرب، حيث دخلت روسيا لمساندة صربيا، وتبعتها ألمانيا لإسناد حليفتها النمسا.
5. السباق نحو التسلح
خلال العقود التي سبقت الحرب، كان هناك سباق محموم بين القوى الأوروبية لبناء جيوش كبيرة وتطوير أسلحة حديثة. هذا التسلح كان أحد الأسباب المباشرة التي ساعدت في تحويل الأزمات السياسية إلى حروب مدمرة. تنافست الدول الكبرى، خاصة بريطانيا وألمانيا، على بناء أساطيل بحرية كبيرة، في حين كانت الجيوش البرية الضخمة في القارة الأوروبية تشكل تهديدًا مستمرًا.
6. التوترات في البحر المتوسط
كانت منطقة البحر المتوسط تشهد صراعات وحروبًا بين القوى الكبرى، مثل فرنسا وبريطانيا، من جهة، والإمبراطورية العثمانية من جهة أخرى. كما كانت تلك المنطقة ملاذًا للعديد من القوى الصاعدة، مثل إيطاليا، التي كانت تسعى للاستفادة من انهيار الإمبراطورية العثمانية. تلك الصراعات أضافت المزيد من التوترات التي غذّت الأوضاع السياسية المتوترة في أوروبا.
ثانياً: أسباب قيام الحرب العالمية الثانية
1. المعاهدات غير العادلة في أعقاب الحرب العالمية الأولى
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، تم توقيع معاهدة فرساي في عام 1919، التي فرضت شروطًا قاسية على ألمانيا. تضمنت المعاهدة تقليص حجم الجيش الألماني، فرض تعويضات مالية ضخمة، وأخذ العديد من الأراضي الألمانية. هذه الشروط كانت مُهينة لألمانيا وأثارت مشاعر الغضب والاستياء بين الشعب الألماني. في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية، كانت هذه المشاعر تترسخ أكثر فأكثر.
2. صعود النازية تحت قيادة هتلر
كانت الأزمة الاقتصادية الكبرى التي عصفت بالعالم في الثلاثينيات قد أثرت بشكل كبير على ألمانيا، ما أدى إلى تزايد السخط الشعبي. في هذا السياق، ظهر الحزب النازي بقيادة أدولف هتلر، الذي استغل هذا السخط ليعزز سلطته. وعد هتلر بإعادة عظَمة ألمانيا من خلال استعادة الأراضي المفقودة، وتحقيق القوة العسكرية والاقتصادية. بدأ هتلر في انتهاج سياسات توسعية وقومية متطرفة كانت تهدف إلى إعادة بناء الإمبراطورية الألمانية على حساب جيرانها.
3. التوسع الياباني
كانت اليابان قد سعت بدورها إلى تحقيق نفوذ إقليمي في شرق آسيا، وخاصة في الصين ومنطقة المحيط الهادئ. بدأ التوسع الياباني بشكل أكثر وضوحًا مع اجتياح منشوريا في عام 1931، ثم في بداية الحرب العالمية الثانية، قامت اليابان بشن الهجوم على الصين في عام 1937. هذا التوسع أزعج القوى الغربية، وخصوصًا الولايات المتحدة، مما ساهم في تصاعد التوترات الدولية.
4. سياسة الترضية
في أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين، انتهجت بعض القوى الأوروبية، مثل بريطانيا وفرنسا، سياسة الترضية تجاه ألمانيا النازية، آملاً في تجنب اندلاع حرب جديدة. تمثل ذلك في السماح لألمانيا بضم النمسا في 1938 (الأنشلوس) وكذلك في ضم منطقة سوديتنلاند في تشيكوسلوفاكيا. لكن هذه السياسة لم تؤدِ إلا إلى تعزيز طموحات هتلر في التوسع العسكري والسياسي.
5. الحروب الأيديولوجية والصراع بين الديمقراطية والفاشية
كان الصراع بين الأنظمة الديمقراطية والفاشية يزداد تعقيدًا. في إيطاليا، كان بنيتو موسوليني قد أسس نظامًا فاشيًا، وكان يسعى لتحقيق طموحات توسعية مشابهة لتلك التي كان يسعى إليها هتلر. كذلك في إسبانيا، نشبت حرب أهلية بين الجمهوريين (الذين كانوا مدعومين من الاتحاد السوفيتي) والقوميين بقيادة فرانشيسكو فرانكو، الذي كان مدعومًا من هتلر وموسوليني. هذه التوترات الأيديولوجية بين الفاشية والديمقراطية عززت الأجواء العالمية المهيأة للحرب.
6. فشل عصبة الأمم
فشلت عصبة الأمم في تطبيق قراراتها وفرض الأمن الدولي، خصوصًا بعد انسحاب بعض الدول الكبرى منها، مثل اليابان وألمانيا. لم تتمكن العصبة من منع الاعتداءات المتزايدة من قبل القوى الفاشية، وهو ما جعل بعض الدول الأخرى تشك في فعالية المنظمة في الحفاظ على السلام العالمي.
7. السياسة العسكرية للأمم الكبرى
بدأت القوى الكبرى في أوروبا بإعادة تسليح جيوشها وتجهيزها للحرب. كان لكل من بريطانيا وفرنسا جيوش كبيرة، لكن ألمانيا استغلت الفراغ السياسي والاقتصادي لتطوير قدراتها العسكرية بشكل سريع. كانت سياسة التوسع العسكري التي انتهجها هتلر، إضافة إلى تجنيد وتحفيز الجيوش، تشير إلى أن الحرب كانت قاب قوسين أو أدنى. التحديات العسكرية التي نشأت في أوروبا كانت بداية التوترات التي أدت إلى المواجهة العالمية.
الخاتمة
تعتبر الحربان العالميتان نتيجة لتراكم مجموعة من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت تتفاعل في مختلف أنحاء العالم. إذا كانت الحرب العالمية الأولى قد نشبت نتيجة للتنافس الإمبريالي والاصطفافات العسكرية المتعارضة، فإن الحرب العالمية الثانية جاءت في سياق فشل المعاهدات الدولية، صعود الأنظمة الفاشية، والتوسع العسكري المستمر. إن الفهم العميق للأسباب التي أدت إلى هاتين الحربين مهم لتجنب تكرار الأخطاء التي أدت إلى مآسي بشرية وتدمير واسع النطاق.
